الموروث الشعبى فى الصعيد والعبقرية الفطرية

الأحد 4 أغسطس 2019 12:49 صـ 1 ذو الحجة 1440 هـ
الشاعر عادل صابر
الشاعر عادل صابر

يحتل الموروث الشعبى جزءًا كبيراً ، ومكانة عالية من ثقافة الشعوب ، فهو يعبر عن مخزونها الثقافى، وحكمتها ، وأصالتها ، وكرمها ، وقيمها ، وعاداتها وتقاليدها ، وكلما زادت ثقافة الشعوب كلما ، ازدحمت بمورثها الشعبى ، ولكن مصر لها طابع خاص فى موروثها الشعبى ، فهو موروث قديم ، قِدَم النيل ، والفلاح ، وحقول القمح ، وحزن المغارب ، وبهجة أبراج الحمام ، وآهات الناى فى ليالى الشتاء الدافئة ، ولكل إقليم فى مصر موروثه الشعبى الخاص به ، ويتمثل ذلك فى ضروب الفن الشعبى المتعددة المشارب ، فليس هناك طبقة شعبية فى مصر إلا ولها فنها الشعبى الخاص بها من " موال ، فن واو ، العدودة ، أغانى الأفراح ، والحصاد ، والنورج ، والشادوف ، وغناء الأطفال حين يلعبون ، ويمكننى أن أزعم أن صعيد مصر عامة ، وقنا خاصة ، هو منبع الإبداع فى كل مجالات الأدب ، وخصوصاً الفن الشعبى ، وقد يكون لذلك اسبابه المتعددة ، منها جو الصعيد الحار الذى يلهب قريحة الإبداع فتجود بأجود الفنون ، كما تصهر النار الذهب ، ومنها البيئة الخصبة التى تلهمنا بالمفردات ، والحكمة ، والزخم الشعبى الموغل فى ثنايا الدهر ، والضارب بجذوره فى اعماق التاريخ ، وقد جاء الموروث الشعبى الجنوبى بالتواتر ، أى انهم حفظته الجماعة الشعبية عن اجدادهم ، واجدادهم ورثوه عن اجدادهم ايضا، ولذلك نجد أن مفرداته وتيمته الخاصة به تكاد تنقرض ، لولا ان هناك الكثير من الباحثين الذين يجتهدون ويبذلون مافى وسعهم لجمع هذا الموروث الشعبى العظيم الذى لايقل قيمة عن الآثار فى صعيد مصر ، وسنتطرق رويداً رويداً إلى معظم هذه الفروع المختلفة من الفن الشعبى ، لنعود بكم إلى الزمن الجميل ، بكل براءته وجماله وزخمه الخاص به ، وسنقدم لكم مقتطفات من كل صنف من صنوف هذه الفنون الخالدة ، وسنكتبها فى حلقات متتالية إن شاء الله ، ونبدأها بغناء النساء فى الافراح ، المستتر منها والمكشوف ، واحيانا تكون هناك كلمات غير بريئة لانستطيع تبديلها ، ونتركها "بعبلها " كما يقولون احتراماً لامانة الجمع ، وتوقيراً لفن هذه الجماعات الشعبية التى ابدعت هذا الموروث الشعبى العظيم الخالد .
** أغانى النساء فى أفراح الصعيد القديمة

وهكذا يواصل الموروث الشعبى الصعيدى تغوُّله ، يضرب بجذوره فى الأعماق ، فيتنقل من الموال الى العدودة ، إلى الأحجية ، إلى أغانى الافراح الصعيدية ، حيث يلتف كورال من نساء القرية يسمون " الردّيدة " وفتياتها حول إحداهن ، ويرددن معها أغانى الأفراح الخاصة بالعريس تارة ، وبالعروسة تارةً أخرى ،ثم يعرِّجن الى أُم العريس وأم العروسة وأبوها ، واحيانا تكون الأغانى فردية وأحيانا تكون جماعية ، مصاحبة للرقص والتمايل على إيقاع الدف والطبلة أو تصفيق الكفوف ، يتخللها الكثير من الزغاريد التى تضفى على الفرَح نوعاً من الإيقاع القوى ، واحيانا يكون الإيقاع مدهشاً ولكن الجمهور لايجيد الرقص ، وتزدحم هذه الأغنيات بالمفردات الجنوبية الأصيلة التى قد لايستوعبها هذا الجيل ، جيل الكمبيوتر والنت والتليفزيون بمفرداته الغريبة المزيفة ، وهذه الأغانى التلقائية البسيطة منها الكثير من المستور ، والكثير من المفضوح ، فيبدأ الكورال أو الردِّيدة ثم تتبعهم المغنية كما سنبيِّن لكم ، وأحبذ ان ابداها باغنية على لسان العروسة ، حيث تصف فيها رحلة زواجها ، منذُ ان اقتلعوها من بيت ابيها ، واصفة بمهارة عفوية ماحدث من استعداد لتغريبها عن المكان الذى نشأت فيه وشبَّت وترعرت بين أحضانه إلى بيت رجل غريب لاتعرف قوانينه وعاداته وتقاليده ، وهنا المفارقة العجيبة ، فرغم فرحتها بالزواج وبالعريس القادم ، إلا انها تشعر بالحزن وهى تقدم إلى عالم غريب عنها ، ولاتعرف ماذا ستفعل بها يد القدر ، هل ستلقى بها فى جنة الزوجية والأمل المنتظَر أم فى نار العبودية ، وبحر الأيام المتلاطم الامواج ، فتقول مخاطبة أبيها "ابو الحسن " الفقير الذى فرح بزواج ابنته وسترها ، فتخاطب العروسة ابيها قائلة :-

بسكّين السلخانة وسلخونى يابوالحسن

بسكين السلخانة وسلخوووووونى

بالليفة والصابونة وغسّلونى يابوالحسن

بالليفة والصابونة وغسَّلوووووونى

والطرحة والعباية ولبّسونى يابوالحسن

والطرحة والعباية ولبّسوووووونى

بالكحلة أم الدلاّل وكحّلونى يابوالحسن

بالكحلة ام الدلاّل وكحلوووووووونى

والحِنّة من اسوان وبلبطونى يابوالحسن

والحنة من أسوان وبلبطووووووونى

وعلى فرسة العمدة وركبّونى يابوالحسن

وعلى فرسة العمدة وركّبووووووونى

وفى البحر الكبير وحدفونى يابوالحسن

فى البحر الكبير وحدفوووووووووونى

وهكذا نرى ان العروسة بعدما وصفت كل هذا الوصف فى ليلة تغريبها عن دار ابيها ، ومافعلوه النساء بها من سلخ بسكين السلخانة ، وهى كناية عن نتف مابجسمها من شعر ، وتنظيفها تماما ، وبعنف ، حتى شعرت انها ذبحت عنوة بسكين السلخانة وايدى النساء اللاتى لايرحمن رقتها وحنانها وجسدها الغض !!

ثم نذهب بكم إلى أغانى نساء قريتها المبهجة والتى تصف لوعة العريس ، وشوقه الجارف ، وهو يسعى ذهابا وإياباً لرؤية العروسة قبل الخطبة ، وحيله العجيبة للوصول لطلب يد العروسة ، ومعرفة هل هى مخطوبة ، ام انها مازالت تنتظر فارس احلامها ، فتبدأ النساء بالعودة إلى الماضى ووصف حالة العريس حين كان يلتمس الطرق والمساعى لرؤية العريس وهو يعتقد انه بهذه الحيل سيبلغ مراده ، فيغنين :-

الردِّيدة : آه ياليل ياليل ، ياما طال الليل

آه ياليل ياليل ، ياحلاوة الليل

- فايت على دربنا

متْكِى على الشوبة

حوِّد كدة .. حوِّد كدة

دا البت مخطوبة

- آه ياليل ياليل ، ياما طال الليل

آه ياليل ياليل ، ياحلاوة الليل

- فايت على دربنا

متكى على الشاغر

حوِّد كدة ، حوِّد كدة ..

عشق البنات واعر

- آه ياليل ياليل ياما طال الليل

آه ياليل ياليل ، ياحلاوة الليل

وطلعت فوق السطوح

منديل طرَف عينى

ابكى على الحب ..

ولاّ ابكى على عينى

- آه ياليل ياليل .. ياما طال الليل

آه ياليل ياليل ، ياحلاوة الليل

طلعت فوق السطوح

والسطح وقَّعنى

أبكى على الحب

ولاّ ع اللى يوجعنى

ثم تعرِّج بنا ماسكة الدف الى حمامها الذى لاف على حين غفلة مع حمام جارها "على " وهو إشارة رائعة على أن العشق لايعرف حدود ولاتحده أماكن ، وليس على القلوب سلطان ، وأن الحب يهزأ بأقفال الحدّادين :-

- يامة حمامى اتخلط ، ويّا حمام الواد على

وطلعت له بمقشِّة

ونزلت له بمقشِّة

ولقيت حمامة بتتمَّشى

مع حمام الواد على

- يامة حمامى اتخلط ، ويّا حمام الواد على

وطلعت له بالكوسة

ونزلت له بالكوسة

ولقيت حمامة مدسوسة

مع حمام الواد على

- يامة حمامى اتخلط ، ويّا حمام الواد على

وطلعت له بتفاحة

ونزلت له بتفاحة

ولقيت حمامة فلاّحة

مع حمامة الواد على

- يامة حمامى اتخلط ، ويّا حمام الواد على

ثم تواصل المغنية غناءها واصفة البنات اللاتى يقبلن على الزواج وكأنهن قصب ظمآن للماء وتصف لحظة الدخلة المرتقبة وعريسها الذى يتحرق شوقاً لهذه اللحظة المذهلة المرعبة فتقول:-

- القصب القصب .. القصب عايز مية ياواد

- ياحلاوة القصب .. عطشان وعايز مية يا ..

محلاكى يابت يابيضة

لما العريس يخُش

يلقاكى بيضا بيضا

ومبيضاله الوش

يدخل يديكى جنيه

يطلع يديكى جنيه

على خلعة البوريه

فى الأوضة الوسطانية يا ..

- القصب القصب .. القصب عايز مية ياواد ..

محلاكى يابت ياسمرة

لما العريس يخُش

يلقاكى سمرة سمرة

ومحفِّفاله الوش

يدخل يديكى ريال

يطلع يديكى ريال

على رنة الخلخال

فى الأوضة الوسطانية يا ..

- القصب القصب .. القصب عايز مية ياواد..

محلاكى يابت ياحمرا

لما العريس يخش

يلقاكى حمرا حمرا

ومحمِّراله الوش

يدخل يديكى خمسين

يطلع يديكى خمسين

على رنة السرير

فى الأوضة الجوانية يا

القصب ، القصب .. القصب عايز مية ياواد

وهكذا تستمر المرأة تغنى بينما القصب من حولها يتمايل على الإيقاع شوقاً الى المية أقصد العريس القادم ، ثم تقوم احداهن مسرعة خاطفة الدف بشوق عارم لتدلى بدلوها ، وتفجِّر كل طاقتها المكتومة وتغنى :-

واتكحرت واجرى .. يارمان

وتعالى على حجرى ... يارمان

وانا حجرى حنيِّن ... يارمان

ياخدك ويميِّل ... يارمان

وانا حجرى حرير .. يارمان

ياخدك ويطير ... يارمان

فتقوم فتاة أخرى خاطفة الطبلة منها ومتحزمة بطرحتها على وسطها وتغنى : -

ياللى ع الترعة حوِّد ع المالح

وسطى بيوجعنى من رقص امبارح

ياللى ع الترعة حود ع المالح

عينى بتوجعنى من سهر امبارح

رجلى بتوجعنى من مشى امبارح

بطنى بتوجعنى من مر امبارح

وهكذا تستمر الفتيات فى الغناء والرقص والتمايل على انغام الطبلة ، فتقوم امرأة أكبر سناً من الفتيات وتعود بهن الى الأغانى الأكثر قدما وتغنى :-

- وتعالى قُلِّى .. تعالى قُلِّى .. تعالى قُلِّى

- لما أسوِّى فرشتى وارش فُلِّى

والقط دخل الخزانة .. وتعلى قلى

خطف الفروجة العريانة .. وتعالى قلى

والبت نايمة ونعسانة.. وتعلى قلِّى

لما أسوى كُحلتى وارش فُلِّى

- وتعالى قُلِّى .. تعالى قُلِّى .. تعالى قُلِّى

- لما أسوِّى فرشتى وارش فُلِّى

والقط دخل البِنيّة ، وتعالى قلِّى

خطف الفروجة العتقية وتعالى قلى

والبت نايمة ومتكية وتعالى قُلى

لما أسوى فرشتى وارش فُلى

وهكذا تستمر المرأة فى وصف القط الذى غافل أهل البيت ودخل متسللاً الى عشة الدجاج ، فاختطف أحلى مافيهن ، بينما الجميع فى نوم عميق ..

ثم تواصل إحداهن الغناء عن مراودة العريس للعروسة ، وإغرائها بالمال ، حتى يلين قلبها وينال مرادُه ، ولم يراودها بمبلغ معين من المال ، ولكن وعدها ان يعطيها محفظته بما فيها من نقود إذا وافقت على شرطه ومنحته بوسه واحدة ، والبوسة عند أهل الصعيد القدماء تسمى " حَبّة " ، فيقول :-

- حبّة ياعروسة واديكى المُحفضة

- حبّة ياعروسة وخدى منى المحفضة

ياما لبست خلخالها

ياما قلعت خلخالها

بتوريه جمالها ...علشان المحفضة

- ياما قلعت لبتها

ياما لبست لبتها

بتفرِّج عمتها

علشان المحفضة

ياما قلعت فستانها

ياما لبست فستانها

بتفرِّج جيرانها .. علشان المحفضة

ياما قلعت قميصها

ياما لبست قميصها

بتفرِّج عريسها

علشان المحفضة

- حبّة ياعروسة واديكى المحفضة

وهكذا يظل هو يغريها بالمحفضة ، اما هى فتراوده بجمالها ، حتى تأخذ منه المحفضة والبيت وتخليه على الحديدة ...

وهكذا كانت أفراح الصعيد بكل جمالها وبساطة كلماتها وسلاسة ايقاعها وسحرها الخاص بها ، حتى هجمت علينا المدنية بكل غشمها وعنفها وايقاعها الصاخب ومفرداتها الكريهة ، وغطى القبُح على الجمال ، والصخب على الهدوء ،فأصبحنا لانسمع إلا خبط ورزع الليل كله فى الديجيهات الهمجية وايقاعها المجنون ، ورجال تنعق كالغربان طوال الليل ، ومتوحشون يتراقصون حولهم ، فما ابشع الهمجية عندما تشوه الجمال ، وما أفظع المدنية المفترسة والحضارة البلهاء حين تلتهم كل جميل وأصيل !!