خلَف الله عليكم يامحبين

الإثنين 26 أغسطس 2019 05:02 مـ 24 ذو الحجة 1440 هـ
عادل صابر
عادل صابر

فى الوسعاية الكبيرة التى لاتبعد كثيراً عن الدار ، وتحت شجرة الجميز القديمة ذات الظل الممدود ، جلس العريس "عوض" على مقعد من جريد النخل ، ويقف بجواره مزيِّن القرية ذو الكِرش الكبير ، واضعاً فوطة بيضاء من قماش رخيص ، على أكتاف " عوض " ورقبته ، واخذ يرش بعضاً من الكولونيا القديمة على شعره المترب ، صائحاً بأعلى صوته : ( خلف الله عليكم يامحبين والعاقبة عنديكم ... خلف الله عليكم يامحبّييييين والعااااقبة عنديكم " ، وتجمّع أهل النجع رجالاً ونساءً وصبية ، والتفوا بفرحتهم حول العريس ، يهنئونه ، ( الف مبروك ياعوض ... ربنا يتمِّم بخير ... ليلتك ياعريس...صبرت ونلت ياعوض .. ) وانطلقت الزغاريد من الشبابيك وحول عوض ، وبدأت النقطة تنزل على ِحِجرالعريس من كل فجِ عميق ، والمزيِّن يضحك ويصيح " خلف الله عليكم يامحبّين والعاقبة عنديكم .. خلف الله عليكم يامحبّييييين ، والعاقبة عنديكم " حتى امتلأ حِجر جلياب عوض بالنقود فرحة به فى ليلة دخلته ، مابين عملات قديمة وجديدة ، ورقيه وفضية " وبينما الجميع منهمك ، والضحكات تخرج من الأفواه عالية ، كان عوض يتخيّل الفرَح وعروسته "سعدية" بجواره على الكوشة تبتسم ، وتسقيه الشربات ، وأمه ترش الملح فوق النساء خوفاً عليه من الحسد ، واصدقائه يلقون بالحلوى فوق رؤس الصبية ، وطلقات نار تنطلق فى الجو ، وصواريخ الفرَح تعلو فرقعاتها فترسم دوائر من نار يراها كل أهل النجع فيبتهجون لليلة زواج عوض ، وغداً ستصبح ليلته حديث القرية ، واثناء انشغاله بخياله فى الفرَح ، واثناء صيحات المزين ، انطلقت من بيت عوض صرخة قوية كأنها طلقة بندقية ، وتبعتها صرخات كثيفة جدا ، وتبيّن أنه جاء اتصال من أحد الضباط بالجيش باستشهاد " صابر " الأخ الأصغر لعوض ، فى أحد الكمائن بسيناء على يد الإرهاب ، وانتفض " عوض " ووقف صارخاً ، وفوطة المزيّن البيضاء على رقبته وكتفيه ، وبعثر النقطة على الأرض فلمها المزيِّن بسرعة ووضعها فى جيبه ، انطلق عوض صارخاً ، والناس وراءه يصرخون ، يحاولون الإمساك بعوض ، الذى لايعرف ماذا يفعل سوى أنه قفز على شاطئ الترعة المجاورة ، نزل وراءه شباب النجع لينقذوه .. تناول الكثير من طين الترعة ، ووضعه على رأسه وكتفيه وعلى فوطة المزيِّن البيضاء .. شق جلبابه .. كان يصرخ بلاوعى "ياصابر ... ياصاااابر ... ياصااابر ... قتلوك ياصابر ... قتلوك فى ليلة فرحى ... دا انا كنت مستنيك عشان تحضر وتضرب نار فى فرح اخوك عوض .. تقوم تموت .. برضه عملة دى تعملها !! ..برضه كدة ياخووووووى ... اسم الله عليك ياصابر .. فى سبيل الله ياخوووووووووى .. دا انا ماليش غيرك ياصابر.. دا انا ربيتك بالمر ياخى بعد موت ابوك ، وقلت يكبر ويجيب الخير ... تقوم تكبر وتموت ياصابر ؟!! " وظل يصرخ عوض بلاوعى ، وشباب النجع يبكون ويهدأون من روعته وهلعه لموت اخيه الأصغر ، وبينما هم كذلك أنطلقت ميكرفونات المساجد بالبلدة لتعلن استشهاد المجند " صابر عبدالسميع عليش " وطلوع الجنازة الساعة التاسعة مساءًا ، والصلاة فى مسجد الجبانة الكبير.

وخيّم المساء حزيناً كالحاً على القرية ، وتجمّع الناس من كل حدب ينسلون ، من أهالى القرية والقرى المجاورة ، منتظرين جثة الشهيد صابر عند مسجد الجبانة وعلى الطرقات ، والجميع يبكى ، ونساء البلدة ينتظرن صارخات فوق أرض الجبانة بجلاليبهن السوداء كأنهن ليل آخر . أمّا " عوض" فكان يحيطون به اصدقاءه وهو يحزم وسطه بحبل غليظ من الليف ، شاقاً جلبابه ، والكثير من طين الترعة الأسود يلطِّخ به رأسه وكتفيه وفوطة المزيِّن مازالت تربط عنقه وقد لطخها الطين فأصبحت سوداء حزينة ، ومازال يصرخ بصوت مبحوح : ياواد ياصااااااااااااااابر ... تعا شوف اخوك ... ياواد ياصابر تعا شوف عوووووووووض . ياخسارتك ياصابر . مكانش يومك ياصغيِّر . مالسة بدرى ياواد "

وفجأة وقف الرجال ، وعلت صرخات النساء ، وغطى صوت الإسعاف على صرخات الجميع ، فقد وصلت جثة الشهيد ، والتف الناس حول عربة الإسعاف ، اثناء تنزيل الشهيد الى مسجد الجبانة ، والجميع بينتحبون من البكاء والعويل ، وعلا صوت الناس بالتسبيل على الشهيد " الدايم الله ياصابر ... الدايم الله ياولدى " ودخل النعش الى المسجد وصلوا عليه صلاة الجنازة ، وخرج الى قبره ، وكان النعش سريع الخطو نحو القبور ، والناس جميعهم يركضون وراءه وكأنه يحن الى التراب ، ويشتاق إلى أمه الأرض ،وأثناء ذلك المشهد الحزين ، كان الكثير من الجنود ببنادقهم ينتظرون على قبر صابر استعداداً لمراسم الدفن ، والتف الناس حول قبر صابر يعلو عويلهم ، بينما عوض واقف فى ذهول ، لايصدِّق موت اخيه ، صار كأنه سكران بخمر الحزن ، واثناء تنزيل الشهيد إلى قبره ، اطلق الحنود بعض الطلقات النارية تشريفاً لشهيد الوطن ، عندها تخيّل عوض طلقات النار التى كانت ستطلق فى فرحه ، هاهى تُطلَق فى جنازة أخيه ، يأتيه صراخ النسوة على تراب الجبانة ، كالزغاريد التى انطلقت فى فرحه ، يرن فى أذنه اليمنى صوت الرجال على الجبانة " الدايم الله ياولدى " بينما فى أذنه اليسرى مازال يرن صوت المزيِّن " خلف الله عليكم يامحبين .. والعاقبة عنديكم " ، وأفاق عوض من ذلك كله على صوت الفحار يطلب قراءة الفاتحة على الشهيد ، وبعد قراءة الفاتحة ، نزل الجميع من الجبانة فرادَى وجماعات ، بقلوب باكية وعيون دامعة ، يختلطون ببعض الجنود من زملاء الشهيد ، بينما عوض يتوسط بعض اصدقاءه الذين يحيطون به مسنود عليهم ,والحبل على وسطه ، وفوطة المزيّن الملطخة بالطين على أكتافه ، وهو ينظر إلى السائرين الى ديارهم صارخاً باعلى صوته وبطريقة هستيرية كالمجنون " خلف الله عليكم يامحبّين .. والعاقبة عنديكم ".. " خلف الله عليكم يامحبّيييييييييين ، والعاقبة عنديكم "