رمضان في بلاد الله

الجمعة 18 مايو 2018 12:18 صـ 2 رمضان 1439 هـ
ا.د:/ محمد أبوالفضل بدران
ا.د:/ محمد أبوالفضل بدران

 

طَبلية العُوَيْضات
لم أعرف قيمة طبلية بيتنا إلا بعدما كبرت وسمعت المقولة الشهيرة التي نطلقها علي الشخص الأصيل التي لاينظر لما في أيدي الآخرين وإنما يكتفي راضيا بما قسمه الله له، فيقال عنه "تربي علي طبيلة أبيه" فالطبلية الدائرية التي تستند علي أربعة أرجل وترتفع عن الأرض نصف متر تقريبًا نتحلق حولها جميعا في رمضان وقبيل الإفطار نضع الأكل ولا سيما البلح والزلابية والكنافة ، لكن نمضي إلي المسجد العتيق منتظرين قدوم الشيخ خليل أبو جلال الذي يأتي في كامل أناقته بجلباب أبيض وعمامة خضراء ولحية سوداء، ويمشي الهويني نحو المسجد، ونفرح بقدومه لأنه مؤشر علي قرب أذان المغرب ، كان الشيخ خليل من الطيبين، وكان ينتظر إشارة من إمام المسجد الشيخ عبد الحليم الطاهر ذلك الرجل التقي الذي ظل يؤم البلدة أعواما طويلة حتي وفاته - رحمه الله - دون أجر لأنه كان غنيا ويري أن ذلك ثواب يؤجر عليه من الله تعالي ، وما أزال أحفظ نهاية خُطب الجمعة لديه عندما يتجه للناس "اتقوا الله فقد كفي ما كان، واتقوا الله فحالُنا لايرضي به إنسان،و اتقوا الله وسَلُوه إصلاحا وتنظيما...." ثم يبدأ في الدعاء لقادة ثورتنا المباركة ، وكم أندم لأن أحدا لم يسجل خطبة من خطبه أوتلاوة من تلاوته القرآنية في الصلاة أو عندما كان يأتي زائرا في بيتنا ويجلس مع أبي -رحمه الله -في تلاوة متبادلة، ينتظر الشيخ خليل إشارة الشيخ عبد الحليم الطاهر ويصعد المئذنة التي تُعد من أجمل المآذن في عمارتها وشكلها الجمالي، ونحن تحت المئذنة نبحلق في البسطة الأولي حتي نري الشيخ خليل لكنه لا يكتفي بالبسطة الأولي وهي مرتفعة بل يعاود الصعود إلي أعلي المئذنة الشاهقة وكان ثوبه الأبيض يبدو أكثر بياضًا ونصاعةً، كان يتحمحم ثم يتمتم بكلمات لا نسمعها، وتشرئب أعناقنا إلي أعلي المئذنة، فلا ميكروفونات ولا سماعات آنذاك وفجأة يعلو صوت الشيخ خليل "‬الله أكبر" ونجري في سرعة فائقة كلُّ يتجه إلي بيته مبشّرا أهله الذين يتحلّقون حول الطبلية، ونحن نردد "‬افطر يا صايم" ثم يأتي السؤال اليومي "‬الشيخ خليل أذّن؟" ونجيب: نعم.. ويبدأ الإفطار الشهي علي التمر ثم نصلي المغرب جماعة.

رمضان في بلاد الألمان
أخذتُ البلح معي إلي ألمانيا ظنا أن ألمانيا لا نخيل بها وربما لا يبيعون التمر، اصطحبته معي، كان الطريق إلي جامعة بون حيث أدرس يمر بحديقة واسعة اسمها "هوف كارتن" وكان الطلبة إذا أشرقت الشمس- وهذا شيئ نادر في ألمانيا - يتمشون في هذه الحديقة، كنت أسكن في شارع يسمي "لينيه اشتراسه" واشتراسه بالألماني شارع أي "‬شارع لينيه" واكتشفت أن المستشرقة الألمانية الشهيرة آنا ماري شيمل التي كتبت 80 كتابًا حول عظمة الإسلام وسماحته تسكن في هذا الشارع بعد بيتين من البيت الذي أسكنه، وكان هذا مبعث سعادتي وكم كنت أفرح عندما نتصادف الذهاب سويًا إلي الجامعة، وتتوقف كل برهة وهي تردد أقوال جلال الدين الرومي عن حدائق المعرفة وعن الزهور المتكلّمة والأشجار التي تمشي معنا، وكانت تتكلم عن الأبنية العتيقة في جامعة بون وكيف تمّ بناؤها وكانت المسافة بين بيتها والجامعة أقل من كيلومتر كنا نقطعه في نصف ساعة لأن حديثها مشرق وروحها خلابة جذابة، والأعجب أنها كانت عندما تكلمني تخاطبني "يامولانا".. فأبتسم فتقول لي "‬أنت صاحب الخضر. فأنت مولانا..." الجميل في الأمر عندما عزَمتْني إلي بيتها قدّمت لي التمر في بيتها، وفي المرة الثانية أهديتها التمر الصعيدي، وأعجبتْ به كثيرا.
كان المستشار الثقافي المصري الدكتور محمد ابراهيم سالم أبا للجميع، يجمعنا كل شهر تقريبا في جلسة ثقافية وعندما جاء رمضان كنت أشعر بغربة بددها هذا المستشار الثقافي بحفل إفطار جميل في مكتب الملحقية الجميل الذي يطل علي "الهوف كارتن" وجامعة بون، وأحضر كل منا الكنافة والقطايف والتمر والزلابية والخشاف فأعادوا لنا أجواء رمضان المصرية ثم صلينا المغرب والعشاء والتراويح؛ ومن حسن طالعي أني عاصرت مستشارين ثقافيين مصريين يحبون مصر مثل الدكتور كمال والدكتور باهر الجوهري والدكتور علي الجميعي وغيرهم مما خففوا عنا عناء الغربة، وكان من الجميل أيضا أن نري ممثلي الأوقاف والأزهر الذين يفدون لقضاء شهر رمضان مع المصريين المغتربين، ولهم دور كبير في شرح مفاهيم الاسلام ومغزي رمضان مما يستدعي الجو الرمضاني المصري في مخيلة المغتربين.

في العين
تقع مدينة العين في إمارة أبو ظبي وهي المدينة التي وُلد بها الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان-رحمه الله- وكان حاكما لها قبل أن يتولي مقاليد الحكم، وأنشأ بها أول جامعة في الإمارات وأسماها "جامعة الامارات العربية المتحدة" ونمت مدينة العين فصارت تباهي المدن الأخري إن لم تتفوق عليها، وقد زرع الشيخ زايد أكثر من عشرة ملايين نخلة علي جانبي الطرق بالإمارات كلها ومن حُسن حظ الامارات أنها صارت "واحة النخيل" بالإمارات، حيث النخيل في كل مكان، وكأنها كرم نخيل تتخلله بيوت، كان عشق الشيخ زايد للنخيل باعثا للاهتمام بالنخيل كما أقام "‬مهرجان التمر"، وكان هذا فرصة لنا لشراء أجود التمور بأزهد الأسعار، ولذا نخزّن التمر من هذا المهرجان حتي إذا جاء شهر رمضان خرجنا إلي حديقة "العين الفايضة" وهي مياه تخرج من الأرض ساخنةً تغدو دافئة في مراوٍ طبيعية بديعة نخلع أحذيتنا ونضع أقدامنا فيها حتي إذا أذن المغرب تجمعنا في الحديقة الواسعة وأفطرنا تحت النخيل وكأننا في نخيل العويضات.
في واشنطن
في الجامع الكبير بواشنطن أديت صلاة الجمعة، كانت هنالك أبواب إلكترونية علي أبواب المسجد، سألت الدكتور حسن عبدالحميد سليمان الذي كان مستشارا ثقافيا هناك.وهو من أنبل الناس الذين عرفتهم خلقا وسلوكا فأجابني لأن العرب يتعاركون في المسجد ويتشاجرون. كان معي الصديق الدكتور مأمون حمزة، ولا أنسي هذا الإمام الذي كان يُرتل القرآن في خشوع وجمال مقلدا صوت الشيخ عبدالباسط عبدالصمد، وقد أحسست بجمال صوته وكأنه يمشي في رياض الجنة.
في القاهرة
في كل رمضان استحضر جو العائلة في قريتي العويضات بجمال "‬اللمّة" علي الطبلية، وهذا ما نفتقده في المدن، فالمدينة تعلي من قيمة الفرد الذي يذوب في المجتمع، فيحاول إيجاد ذاته من خلال نفسه غير متكئ علي قبيلة أو جماعة، ومن أجمل إفطارات رمضان بالقاهرة إفطار في مطعم قرب مسجد سيدنا الحسين رضي الله عنه، هذه أجواء لا تجدها إلا في مصر، وينبغي أن نحافظ عليها لأنها من تراثنا الجميل. 

في النهايات تتجلي البدايات
قال الشاعرسعد القليعي في قصيدته "‬يا واحد"
شعر / يا واحدًا كم تعـــدّدْ، .. ويـــا عديـــــدًا تفــــــــــرّدْ
هبّ السراةُ،... وجــــــــــدّوا، .. وبعدُ، لم تتـــــــــزوّد،
وواصلــــــــوا السعيَ هونًـــــــا .. صــــــوبَ السبيـــــل المُمَهّدْ
وأنتَ، يا شِلْوَ روحــــي .. ممزّقٌ، ومشرّدْ
أَنَخْتَ للناسِ ظـــــــــلّا، .. وسلسبيــــــلًا مُبّرّد
وقُمْتَ جسرَ دمـــــــــــــوعٍ .. يدعـــــــو الشَّقِــــيَّ، ليَسْــــــــــعَد
يا صِنْوَ كُلِّ الليـــــــــــــالي .. ونجمَهَا المُتَفَرِّد،
فراهبٌ وشَقَاهُ  .. قلبٌ ـ إذا نـــــــــامَ ـ يَسْــــــــهَد،
نَخْلٌ علي راحتَيـْــــــــه، .. وبينَ جنْبيـــــــــــــهِ مسْجــــــد،
غِزْلانُــــــــــــــــهُ في المراعـــــــــــي .. من بين جفْنيْــــــــــــــهِ تَشْرُدْ
وصوْتُـــــــــــــه ـ حينَ ناجيَ ـ .. صَــــدَي الهزيــــــــــــــمِ المُـــــــرَدّد
وماؤهُ الحُرُّ،.... طينٌ، .. وطيــــــنُهُ الصَّفْو مَوْرِد
اسْلُكْ يديْـــــــــكَ بِجَيْـــــــبٍ، .. تَخْرجْ نهارًا مُمَرّد
وقَطّعْ الطيرَ يأتيـــــ .. ــكَ من فجٍّ ومشهَد
وألقِ ثمَّ بهاكَ .. كَحَيّةٍ تتأودْ
وإذا الفراغُ تهـــــــاويَ .. كــهَيْكلٍ، وتــــــــمدّدْ
والحُزْنُ أفْرَخَ حُزْنًـــــــا .. في عيْنِهِ.... سَيُغَرّدْ
يا مُحْدثًـــــــــــــا وجديـــــــــــــدًا، .. ويا قديـــــــــــــمًا مُؤبـــــــــــــد
يا صِنْو كُلِّ الليـــــــــــــــالي .. ونَجْمَها المُتــــَـفَرّد
سكرانُ، والليــــــــــلُ كاسٌ .. أرْغَي، وفارَ،..... وأزْبَدْ
نُدْمــــــــــــانُهُ والخَطَايــــــــــــا .. جنٌّ عَصَي،... وتَمَرّدْ
فَغصَّ بالماءِ نَهْـــــرًا، .. وبالدمـــــــــاءِ تَعَمّد
وكانَ ثَمَّ سؤالٌ .. كَزَفْرةٍ يتَصعّد
ماذا بوسعِ وحيــــــــــدٍ، .. تحتَ انهزامٍ مُجَسّــــــــــــد؟
يَئِنُّ أَنّـــــــــةَ عـــــــــانٍ .. أصْداؤهـــــــا السُّـــــــــودُ عُــــــــوّدْ
وحسرةٌ تتــــــــــــــواري، .. بِحَسْرةٍ تَتَجَـــــدّد
النّـــــــــــــادمون سَتَخْبو .. آلامُهُم،.... وَسَتَخْمد،
وسَيَهْنأونَ بآتٍ .. ومُسْتراحٍ مُمَهّد
إذ ما مضي، سوفَ يمضي .. في كُلِّ يومٍ لأبْعَدْ
وعَلي الذي سوفَ يأتي  . تَعَضُّ قلبًـــــا تـــوَقَّدْ!

 

كاتب المقال: نائب رئيس جامعة جنوب الوادى لشئون التعليم والطلاب