عمنا «جوجل»

الإثنين 15 أكتوبر 2018 01:44 صـ 3 صفر 1440 هـ
ا.د/محمد أبوالفضل بدران
ا.د/محمد أبوالفضل بدران

محركات البحث ليست صدقة جارية وإنما تعرفك وستظهر لك المخبوء في نفسك.
»
جوجل» يعرف عنك أكتر منك
جرّب : من هاتفك ابحث أنت عن موضوع ما في رحاب محرك البحث السيد "جوجل"،  ولْيبحث زميلك من هاتفه في اللحظة نفسها عما تبحث.. وانظر إلي نتائجك وقارنها بنتائج زميلك ستجد اختلافا كبيرا..كيف؟ولماذا؟
الموضوع خطير..جوجل يعرفك جيدا لأنه يراقب ميولك وأهواءك واهتماماتك وعما تبحث عنه منذ تعرفت علي السيد جوجل،  ولأنه أعرف بك منك فسيعطيك نتائج تتفق مع مزاجك وتطلعاتك لأنه يراقبك منذ فترة طويلة وخبرك عميقا...
إذن محركات البحث ليست صدقة جارية وإنما تعرفك وستظهر لك المخبوء في نفسك.. فاحذروا محركات البحث لأنها ستعرض نتائج وستخبيء عنك نتائج أخري! لقد أضحي جوجل Google وبنج Bing أقرب إلينا من كتبنا الموثوق بها وصرنا نبحث عن ضالتنا لديهم كأنهم محايدون؛ ناهيك عن كم المعلومات بالمواقع المبثوثة وكم التضليل والتزييف والإشاعات بها.
حكايتي والكتب
بيني والكتب علاقة حب،  نشأتُ في بيت به مكتبة صغيرة لوالدي رحمه الله تعالي كان علي رفوفها الفتوحات المكية لابن عربي وإحياء علوم الدين لأبي حامد الغزالي بجانب كتاب ألف ليلة وليلة، علي الرغم من اختلافهما المنهجي الأسلوبي إلا أنهما تجاورا في لفتة واضحة تشير إلي تقبل المعرفة وأدب الاختلاف.
لم يكن في قريتنا "العويضات" مكتبات عامة لكن هناك مكتبات خاصة لبعض علماء الأزهر كالشيخ محمد الأمين شاهين الذي استعرت منه العبقريات للعقاد ومكتبة الشيخ جاد أب غاي الذي كتب علي مكتبته بيتين من شعره:
ألا يا مستعير الكُتْبَ عني
فإن إعارتي للكُتْبِ عارُ
فمحبوبي من الدنيا كتابي
وهل شاهدت محبوبا يُعارُ؟
ويبدو أنه كتبهما بعدما يئس من عودة كتبه المستعارة التي نوي مُستعيروها ألا يرجعوها،  لكنها كتب جيدة لا سيما في التصوف.
وكم كنت أود أن نجد في جميع بيوتنا مكتبات صغيرة حتي ينشأ أطفالنا علي حب الكتب والثقافة، وإن كان لديَّ خوف كبير من ضياع الكتب والأوراق واختفائها مستقبلا فهذه أجيال جديدة رأت في التقنية الحديثة ما يعوضها عن تصفح الورق فلجأت إلي التصفح الالكتروني الذي غزا أعيننا بملايين المواقع وصار الطفل رهين شاشة هاتفه.
وبالمناسبة فهناك مرض جديد نشأ عن طول فترة مَسْك الهاتف ومتابعة الأفلام والمسلسلات عليه يؤدي إلي تيبس الأطراف،  لأن الهاتف يسخن وينسي ماسكوه ذلك مع شد المناظر عقول الأطفال والكبار وقد يتطور هذا المرض إلي مالا يُحمد عقباه.
لماذا لا نعيد الكتب إلي بيوتنا وإلي عيادات الأطباء فالمرضي ينتظرون ساعات فلو اشتري الطبيب مجلات وكتبا بثمن كشف مريض وتركها في صالة استقبال المرضي ليتصفحوا في وقت انتظاره فسيكون قطعا للوقت الضائع وإفادة للقراء من المرضي ومرافقيهم ونسيانهم آلامهم.
كما أني اقترحت من قبل أن نحوّل النّيش - الذي يُصر العروسان علي اقتنائه - إلي مكتبة وأن نترك الأطباق في كراتينها نستخرجها إذا أقمنا "عزومة" للضيفان،  وهذا لا يحدث في شقة العرسان في بداية حياتهم إلا نادرا وبعد الأكل نُرجعها إلي كراتينها ونستغل النيش "معرض الأطباق والأكواب" في تكوين مكتبة صغيرة.
كتب خالدة
سألتني إحدي المؤسسات الألمانية أن أرشح لها أفضل عشرة كتب عربية في تاريخ الأدب العربي فانتقيت لها ما يلي وسأوافيكم تباعا بالباقي :
كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني.
هذا كتاب أدبي نقدي بأسلوب سردي يحكي فيه أبو الفرج الحياة الاجتماعية والثقافية ويربط بينهما،  وينقل الروايات وكأنه الراوي العليم تاركا للقارئ حق اختيار الرواية التي تروق له،  فمثلا يكتب مائة صفحة عن الشاعر المجنون قيس وعن عشقه ليلي،  وعن أحواله في الصحراء طريدا وحيدا يشكو حبه للصحراء وغزلانها وكأنه نص روائي يأخذ المتلقي إلي أجواء الغزل وصدق المشاعر ونُبل الصحراء.
صفحة من كتاب الأغاني:
مَرّ المجنون بزوج ليلي وهو جالس يصطلي في يوم شات وقد أتي ابن عم له في حي المجنون لحاجة فوقف عليه ثم أنشأ يقول
بِربِّك هل ضَمَمْتَ إليكَ لَيلَي
قُبيلَ الصبح أو قَبَّلْتَ فاها
وهل رَفَّتْ عليك قُرونُ ليلي
رَفِيفَ الأُقْحُوانة في نَدَاها
فقال اللهم إذ حلفتني فنعم قال فقبض المجنون بكلتا يديه قبضتين من الجمر فما فارقهما حتي سقط مغشيا عليه وسقط الجمر مع لحم راحتيه وعض علي شفته فقطعها فقام زوج ليلي مغموما بفعله متعجبا منه فمضي
كتاب "رسالة الغفران" لأبي العلاء المعري :
هذا كتاب مؤثّر في التراث الأدبي والبلاغي والنقدي،  فأبو العلاء المعري الشاعر والناقد يتلقي رسالة قصيرة من صديقه ابن القارح يسأله فيها عن بعض المسائل اللغوية فيجيبه أبو العلاء برسالة الغفران حيث يتخيل صديقه ابن القارح وقد ذهب إلي العالم الآخر حيث يقابل أهل الجنة من الشعراء والمفسرين والبلاغيين والنقاد وينتقل إلي أهل النار من الشعراء والنقاد والبلاغيين أيضا،  ويجري معهم حوارات نقدية في نص "مسروائي" مسرحي روائي شيق يأخذك إلي عوالم الجنة والنار وما بينهما، وينقل لك المشهد بكل أوصافه مع خيال مدهش أخّاذ.
وقد أثّرت هذه الرسالة في الآداب العالمية مثل الكوميديا الإلهية لدانتي؛ والفردوس المفقود لجون ملتون وغير ذلك.
نص من رسالة الغفران:
»
فيقول،  وقد فكر ممَّا سمع،  أي عجب: فأين اللّواتي لم يكنَّ في الدار الفانية؟ وكيف يتميَّزن من غيرهنَّ؟ فيقول الملك: قف أثري لتري البديء من قدره الله. فيتبعه،  فيجيء به إلي حدائق لا يعرف كنهها إلاّ الله،  فيقول الملك: خذ ثمرةً من هذا الثمر فاكسرها فإنَّ هذا الشجر يعرف بشجر الحور.
فيأخذ سفرجلةً، أو رمَّانةً،  أو تفَّاحةً،  أو ما شاء الله من الثمار،  فيكسرها،  فتخرج منها جاريةٌ حوراء عيناء تبرق لحسنها حوريّات الجنان،  فتقول: من أنت يا عبد الله؟ فيقول: أنا فلان بن فلانٍ. فتقول: إنَّي أمنَّي بلقائك قبل أن يخلق الله الدُّنيا بأربعة آلاف سنة. فعند ذلك يسجد إعظاماً لله القدير ويقول: هذا كما جاء في الحديث: أعددت لعبادي المؤمنين ما لا عينٌ رأت،  ولا أذنٌ سمعت،  وبله ما أطلعتهم عليه وبل في معني: دع وكيف.
ويخطر في نفسه،  وهو ساجدٌ،  أنَّ تلك الجارية،  علي حسنها،  ضاويةٌ، ..... فيقال له: أنت مخيَّر في تكوين هذه الجارية كما تشاء. فيقتصر من ذلك علي الإرادة
ويمرُّ رفٌ من إوزّ الجنَّة،  فلا يلبث أن ينزل علي تلك الرَّوضة ويقف وقوف منتظر لأمرٍ،  ومن شأن طير الجنَّة أن يتكلَّم،  فيقول: ما شأنكنَّ؟ فيقلن: ألهمنا أن نسقط في هذه الرَّوضة فنغنّي لمن فيها من شربٍ. فيقول: علي بركة الله القدير. فينتفضن،  فيصرن جواري كواعب يرفلن في وشي الجنَّة،  بأيديهنّ المزاهر وأنواع ما يلتمس به الملاهي.. فيعجب،  وحقَّ له العجب،  وليس ذلك ببديعٍ من قدرة الله جلَّت عظمته،  وعزَّت كلمته،  وسبغت علي العالم نعمته،  ووسعت كلَّ شيءٍ رحمته،  ووقعت بالكافر نقمته. فيقول لإحداهنَّ علي سبيل الامتحان: اعملي قول أبي أمامة،  وهو هذا القاعد:


أمن آل ميَّة رائحٌ أو مغتدِ
عجلان ذا زادٍ وغير مزوَّد؟».... 
ديوان ابن الفارض :
يعد ديوان الشاعر عمر بن الفارض من أجمل الكتب التي حفظتها صغيرا ولم أكن أدري كنه هذه الأشعار ورمزيتها لكني أعجبتُ بأناه العاشقة التي يري نفسه فيها أمير العشاق
نسختُ بحبي آية العشق من قلبي
فأهل الهوي جندي وحكمي علي الكل
وكل فتي يهوي فإني أمامه
وإني بريء من فتي سامع العذل
فهو العاشق في روحانية سامية تعلو علي الحسّيات والماديات في معراج روحي نوراني شفاف.
كلُّ مَنْ في حماك يهواك لكنْ
أنا وحدي بكل من في حماكَ
في النهايات تتجلي البدايات
أنا
»أنا» رجلٌ يبيع الحلمَ بالكلماتِ، 
يقرأُ آيةَ الكرسي
أنا الأمويُّ،  عَشَّاقٌ لفاطمة،  وسُنّيٌّ مع الفاروق
أنا أبتاعُ وَهْمَ حقيقة الدنيا
وأشربُ من مياه النيل أغنيتي
وأسكبُ دمعةَ الأحزانِ في نهرٍ لدجلةَ يا حُسَيْن
أنا أوطاني امتدتْ لقرطبةٍ
وعادت خطوتيْن
أنا وَهْمٌ، 
وليت الوهمَ كان حقيقةً
فدفَنْتُ أشلائي علي باب البقيع
ورحتُ أركع ركعتيْن

أنا العباسُ والفرناسُ والقرطاسُ،  كُرديُّ مع الأكراد،  صوفيٌّ مع الزُّهَّاد،  خمّارٌ مع الأوراد،  أبحرني بحارَ الشوقِ،  أسكرني مع العُبّاد،  أبْحرني بلا شطٍّ،  وأنزلني جبالَ القافِ،  أسكرني بأشعارٍ،  وأيقظني بحفّارٍ علي باب القبورِ،  يبيعُ أكفانَ الهوي،  والناس مجتمعونَ حولَ الموْردِ القدسيِّ، 
إذْ أُسريتُ في بيدِ الوصولْ
وصلتُ، صرتُ الواصلَ الموصولْ
كنتُ القاتلَ المقتولْ
لا بحر الهوي بحري
وروحُ الروحِ رسمُ دخولْ
"أنا" ماعاد لي منها سوي ألفٍ تميل
لعلّها اتكأتْ علي "نون"
وغَدتْ فراشة طارت علي عش الهوي
غَنَّتْ علي "ألفٍ" ومازالتْ تقولْ !!