”القودة” فداءً للأرواح

الثلاثاء 4 ديسمبر 2018 11:39 مـ 25 ربيع أول 1440 هـ
ا.د/ أبوالفضل بدران
ا.د/ أبوالفضل بدران

منظر لن تنساه

لا يمكن أن أنسي ما حييت هذا المنظر، جموعٌ من الناس في ميدان كبير يتراصون علي الدّكك وفجأة يقف الجميع في صمت رهيب بينما يأتي من خارج الميدان رجلٌ حافي القدمين حاسر الرأس يحمل كَفَنه بين يديه، يتمشي ناظرا في ذهول إلي عيون اشرأبت ناظرة إليه، يكاد يتعثر في مشيته، يمسكه اثنان من الرجال الأجواد المعروفين عن يمين وشمال، هل جاء مسمي "القودة" من يُقاد؟ ربما.

حكاية بسيطة:

خلافٌ بسيط علي سببٍ تافه غالبا بين شخصين ينتميان لعائلتين.. تطوّر الخلاف حتي أخرج أحدهما مسدسه قاصدا التلويح والتخويف لكن رصاصته خرجت لتستقر برأس الآخر ليخرّ صريعا، وبدأ مسلسل الثأر الذي لا ينتهي والذي يقتل الأبرياء للأسف، لا شهود، فالشهود يختفون، ويتعمدون الكِتمان حتي لا يُسجن القاتل، فتلجأ عائلة المقتول إلي قتل كبير قبيلة القاتل الذي لا ذنب له، وطالما قُتل الكبير فأبناؤه وقبيلته لا تقبل واحدا عِوضا عنه بل عشرات وهكذا ينتقل الثأر من فرد مقابل فرد إلي آحاد وعشرات متبادلين، ما ذنب المقتول البريء الذي لم يقتل إلا لأنه يمُتُّ لعائلة القاتل الهارب الذي يأوي إلي المدن الكبري التي يسهل الاختباء بها ؟

حكايات الثأر

من العجب أن كثرة القوانين تطيل جلسات المحاكمة، وثغرات المحامين تؤجل الفصل في القضايا، وتعمّد الشهود الصمت تؤرجح يقين القاضي وقد يقضي ببراءة من نعرف أنهم قاتلون لكن باليقين يحكم القاضي ولا ثبوت لديه لما أوردته آنفا، فيري أهلُ الدم وعائلةُ القتيل القاتلَ يمرح في الأرض فتوغر صدورهم فيستمر مسلسل الثأر وكأننا في مباراة 1/1 ثم 1/2 ثم 3/2 وهكذا دواليك. وأتذكر أنه في قرية مجاورة قُتل رجل من كبار القوم كان سائرا بحماره فَقَتل أهلُه خمسة وثلاثين رجلا وبرّروا ذلك أن الرجل الكبير المقتول يساوي الثلاثين بينما مقابل حماره قتلوا خمسة!. وهذا لا يقبله شرع ولا عقل لكنها مساوئ القَبَلية وظلمها الذي نحاول القضاء عليه لا القضاء عليها، فقد تكون القبيلة خيرا لأفرادها في التكافل والتراحم لكن أن تتحول عِوضا عن الدولة فهذا شيء خطير، لأنه يقوّض بناء الدول، ويجعل كل فرد يأخذ حقه بيديه دون أن يدع القانون يسير في مجراه

طقوس القودة:

في تاريخنا العربي القديم نجد أن الحارث بن عوف وهرم بن سنان أصلحا بين عبس وذبيان بعد هذه الحرب الضروس بينهما وتحمّلا ديات القتلي من الطرفين مما استحقّا به مدح زهير بن أبي سُلمي في معلقته الشهيرة:

أمن أم أوفي دمنة لم تكلّم / بحومانة الدراج فالمتثلمِ

إلي أن يقول موجها قصيدته لمدحهما:

يمينا لَنِعم السيدان وُجدتما/ علي كل حالٍ من سحيل ومبرم

تداركتما عبْسا وذبيان بعدما / تفانوا ودقوا بينهم عِطر منشم

في معلقة رائعة، ولأن المشكلات بين العرب لا تنتهي فقد وصلت إلي أجيالنا، وقد أشعلها إرث ثأري متوارث فإذا قُتل قتيل فإن بعض النسوة لا يتحلين لأزواجهن ويهجرنهم حتي يدركوا ثأرهم، كما أن المجتمع صار أكثر ميلا لعدم التسامح ولكثرة الأسلحة في البيوت صار القتل سهلا، واحتمال الإفلات من العقوبة متوقعا، كما أن »المعايرة» تدفع الشباب لأخذ الثأر وقد نجد قوما يرون في ذلك فخرا وراحة لقبيلتهم بين القبائل، كما أن إرثا قديما يري أن المقتول يظل ظامئا »حتي تقول الهامة اسقوني» ولا تُسقي إلا من دم القاتل.
الأجاويد يجودون بالصلح:

يمشي أعيان البلدة والقري المجاورة بين المتخاصمين في زيارات ماراثونية لأن كل فريق يري أنه أجدر بالاعتذار له، وهنا يأتي دور هؤلاء »الأجاويد» الذين يقنعون الأطراف بأهمية الصلح وكفي ما حدث، ولكن ذلك يتطلب مجهودا خرافيا لأن كلا الطرفين يري أنه علي صواب.
وفي الصلح تأتي وفود القبائل من كل القري المحيطة والمدن ووجهاء البلاد وكبراؤها وعامة الناس ويقدّم القاتل كفنه لأهل المقتول وتحتبس الأنفاس دقائق تمرّ كالجبال فإما العفو وإما القتل وغالبا يعلن أهل المقتول العفو عن القاتل، ويجلس الجميع وسط التكبير والتهليل؛
لقد بلغ عدد مجالس الصلح (100) مائة صلح في محافظة قنا وحدها في عهد محافظها الحالي اللواء عبد الحميد الهجان وهي ظاهرة جديرة بالدراسة اجتماعيا ونفسيا واقتصاديا وأمنيا أيضا.

"العربي" علي ضفاف النيل

هل يوجد بيت مثقف عربي يخلو من مجلة العربي؟ عندما كنت صغيرًا كانت مجلة العربي واحة الجمال البصري الذي فتح لي أبواب الخيال قبل أن أتعرف علي الحروف.. كانت موجودة في مكتبة أبي - رحمه الله - كانت مكتبة صغيرة لكن الكتاب الملوّن الذي وقعت عيناي عليه كان "مجلة العربي" الذي رحت أُقلب صفحاتها بحثا عن تشكيل فني أو عن صورة ملونة.. كانت هذه واحتي المعرفية التي أضحت صديقتي عند مطلع كل شهر.. أبحث عنها وأتذكر في سنوات دراستي لنيل درجة الدكتوراه بألمانيا طلبت من المستشار الثقافي الدكتور كمال رضوان - رحمه الله - أن يوفر لنا أعداد مجلة العربي فهاتف صديقه المستشار الثقافي الكويتي الذي أمدنا بعددين منها شهريا؛ ما أجمل أن تكون هناك صداقة بينك ومجلة أو كتاب شعر، إنه جزء منك وإنك جزء منه؛ لقد فتحت لنا مجلة العربي باب التراث من غير تقديس، وباب الحداثة من غير غلو، وصارت أبواب اللغة والشعر والسرد والآراء الجديدة في قراءة التراث أبوابا ثابتة بالعربي، نري أسماء كُتّاب من المشرق والمغرب يتبارون فيما بينهم ولا يجمعهم سوي "التنوير" الذي أود أن يكون مساقا إجباريا علي طلاب جامعاتنا العربية حتي يدركوا أن "التنوير وهو خروج الإنسان من القصور الكامن في ذاته؛ القصور هو عدم قدرة المرء علي استخدام عقله دون الغير" كما حدّه الفيلسوف »Kant كانت»، ما أحوجنا إلي ثقافة التنوير والتسامح وتقبُّل الآخر. لذا جاءت العربي علي مدي ستين عاما تنشر التنوير، تنتقي أجمل القصائد وأجمل اللوحات حتي تقضي علي الفجوة القائمة بين العلوم الإنسانية والعلوم التطبيقية لقد ظن كل منهما أنه يستطيع أن يعيش بعيدا عن الآخر، وكلُّ يري أنه الأهم بل لا يري الآخر... هذه الفجوة التي اتسعت حتي رأينا اكتشافات لا تراعي الأخلاق ولا البعد الإنساني قاطبة.

جاءت دعوة الصديق الدكتور أحمد المطيري المستشار الكويتي لتحتفي بمرور ستين عاما علي بدء إصدارات مجلة العربي علي ضفاف نهر النيل في صحبة الدكتور محمد المخزنجي الذي كان آخر قرار لي قُبيل تَرْكي منصب الأمين العام للمجلس الأعلي للثقافة إضافته مع الأديب محمد المنسي قنديل إلي لجان المجلس الأعلي للثقافة، وقد سعدتُ بما رواه الدكتور سليمان الشطي عن بداية نشأة مجلة العربي، وتحدثتُ فيه عن أهمية مجلة العربي واستمرارها في ظل عدم استمرار مشاريع عربية ثقافية وغير ثقافية أخري، تحدثت عن تكوين العقل العربي.. وقد استمعت إلي كلمات د.سعاد عبد الوهاب وأديبنا يعقوب الشاروني والشاعر مشعل الحربي وبدأت الاحتفالية بكلمة الدكتور أحمد المطيري التي قال فيها "لا يغفل أي قارئ عربي دور الثقافة المصرية في تأسيس العربي وإداراتها التي تمت علي يد نخبة من أهرام الثقافة العربية في الوطن العربي".

لقد كان النيل فَرِحا بهذه الاحتفالية التي أدارتها المثقفة الدكتورة منال العارف بصوتها الأخّاذ وجمال فصاحة ألفاظها وبلاغة جُملها.

فكل الشكر للمكتب الثقافي الكويتي وللدكتور حامد العازمي وزير التعليم الكويتي والسفير محمد صالح الذويخ سفير الكويت بمصر الذين جمعوا النخبة الثقافية بمصر علي اختلاف مشاربها واتجاهاتها ليجمع بينهم حب »مجلة العربي» أستون عاما وهذا الشباب؟

في النهايات تتجلي البدايات

ســـَـالِيدا Salida

"ذكريات (إشبيلية - قرطبة - غرناطة ) بالأندلس"

ســـَـالِيدا

أوّلُ لافتةٍ تستقبلني / أَأَنَا المقصودُ أم المقصودُ أبوعبد ِالله؟

يستقبلني صَقْرُ قريش / ومُلوكُ طوائفِ هذا العصرِ

فألمحُ لافتةً في مَلَقَة : سـَـالِيدا

مَنْ علّقَ هذي اللفظةَ في عينيّ ؟

ســـَـالِيدا !

ما جدوي أن تبقي الأسماءُ ودُونَ مُسَمّي؟/ ما جدوي أن تبقي الجدرانْ؟

وما جدوي أن يبقي الصقرُ المنحوتُ علي الأبوابِ / ولا يمتلك جناحاً للطيرانْ؟

ما قيمة أن يبقي الإنسانُ بلا إنسانْ؟/ بقرطبةٍ قد عرفتُ

كيف يبيعُ الزمانُ المدنْ !/ وكيفَ تخونُ المساكنُ بُنَّاءَها

وكيفَ تجيئُ المحنْ !/ بغرناطةٍ قدْ رأيتُ

كيف يبيعُ المكانُ الزمنْ ! / ومن مَكْمنِهِ

سيؤتَي الفَطِنْ ! / وكيفَ يخونُ الصديقُ الصديقَ

وكيف يُباعُ الوطنْ ! / ها نحن جميعاً في ساحة توريرو Torero

أبو عبد الله الأحمر وأبو عبد الله الأصغر / يدخلُ هذا الثورُ الأحمرُ يبحثُ عمنْ يلقاهُ ينازله

يهربُ كلُّ الجمعِ/ أصفقُ للثورِ

ينظر نحوي يبتسم / ويدخل إكناسيو فيزمجر هذا الثورُ

الثورُ يلاعبهُ/ ويجادلهُ

لا يعبأُ باللونِ/ يصفقُ فرناندو

يغرس إكناسيو الرمحَ برأسِ الثورِ الآمنِ/ ينتفض الثور

يطرح إكناسيو أرضاً / إيزابلاّ تصرخُ

سقطَ الثورُ الأحمرُ وأبو عبد الله !

وأحني القاتلُ قُبَّعَتَهْ / وقفَ الجمهورُ يحيي القاتلَ

ونسُوا المقتولْ !/ فتقبّل إيزابيلاّ فِرناندو !

 

* كاتب المقال : نائب رئيس جامعة جنوب الوادى لشئون التعليم والطلاب